|
|
التوحيد
هو إفرادُ الله بالخلق والتدبر، وإخلاصُ العبادة له، وترك عبادة ما سواه، وإثبات ما لَهُ من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، وتنزيهه عن النقص والعيب؛ويشملُ أنواع التوحيد الثلاثة،توحيد الربوبية، توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات. وبيانها كالتالي:
1 ـ توحيد الربوبية
هو إفرادُ الله تعالى بأفعاله؛ بأن يُعتقَدَ أنه وحده الخالق لجميع المخلوقات: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر/62].
وأنه الرازق لجميع الدواب والآدميين وغيرهم: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود/6].
وأنه مالكُ الملك، والمدبّرُ لشؤون العالم كله؛ يُولِّي ويعزل، ويُعزُّ ويُذل، قادرٌ على كل شيء، يُصَرِّفُ الليل والنهار، ويُحيي ويُميت: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران/26، 27].
وقد نفى الله سبحانه أن يكون له شريكٌ في الملك أو معين، كما نفى سُبحانه أن يكونَ له شريكٌ في الخلق والرِّزق، قال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان/11].
وقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك/21].
كما أعلن انفراده بالربوبية على جميع خلقه فقال: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة/2]، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف/54].
وقد فَطَرَ الله جميعَ الخلق على الإقرار بربوبيته؛ حتى إن المشركين الذين جعلوا له شريكًا في العبادة؛ يقرون بتفرده بالربوبية، كما قال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون/86-89].
فهذا التوحيدُ لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم؛ بل القلوب مفطورة على الإقرار به؛ أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات؛ كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم/10].
وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الرب فرعون، وقد كان مستيقنًا به في الباطن كما قال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} [الإسراء/102].
وقال عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل/14].
وكذلك من يُنكرُ الربَّ اليومَ من الشيوعيين؛ إنما ينكرونه في الظاهر مكابرة؛ وإلا فهم في الباطن لابد أن يعترفوا أنه ما من موجود إلا وله موجد، وما من مخلوق إلا وله خالق وما من أثر إلا وله مؤثر، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور/35-36].
تأمل العالم كله، علويه وسفليه، بجميع أجزائه؛ تجده شاهدًا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه. فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر؛ بمنزلة إنكار العلم وجحده، لا فرق بينهما [لأن العلم الصحيح يثبت وجود الخالق]، وما تتبجح به الشيوعية اليوم من إنكار وجود الرب؛ إنما هو من باب المكابرة، ومصادرة نتائج العقول والأفكار الصحيحة، ومن كان بهذه المثابة، فقد ألغى عقله ودعا الناس للسخرية منه.
مفهومُ كلمةِ الربِّ في القرآن والسُّنَّة وتصوُّرات الأمم الضّالَّة
1 ـ مفهوم كلمة الرّبِّ في الكتاب والسنة
الرّبُّ في الأصل: مصدرُ ربَّ يَرُبُّ، بمعنى: نشَّأ الشيءَ من حال إلى حال إلى حال التمام، يُقالُ: ربَّه وربَّاه وربَّبَهُ، فلفظ (رب) مصدر مستعار للفاعل، ولا يُقالُ: (الرَّبُّ) بالإطلاق؛ إلا لله تعالى المتكفل بما يصلح الموجودات، نحو قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة/2]، {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء/26].
ولا يقال لغيره إلا مضافًا محدودًا، كما يقال: رب الدار؛ وربُّ الفرس. يعني صاحبُها، ومنه قولُه تعالى حكاية عن يوسف عله السلام: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف/42] على قول في تفسير الآية.
وقوله تعالى: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف/50].
وقوله تعالى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف/41].
وقال صلى الله عليه وسلم في ضالة الإبل: (حتى يجدها ربها) [من حديث متفق عليه].
فتبين بهذا: أن الرب يطلق على الله معرفًا ومضافًا، فيقال: الرب، أو رب العالمين، أو رب الناس، ولا تُطلق كلمة الرّبِّ على غير الله إلا مضافة، مثل: رب الدار، ورب المنزل، ورب الإبل.
ومعنى (رب العالمين) أي: خالقهم ومالكهم، ومصلحهم ومربهيم بنعمه، وبإرسال رسله، وإنزال كتبه، ومجازيهم على أعمالهم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (فإنَّ الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم، وجزاء مُحسنهم بإحسانه، ومُسيئهم بإساءته) .
هذه حقيقة الربوبية.
2 ـ مفهوم كلمة الرب في تصورات الأمم الضالة
خلق الله الخلق مفطورين على التوحيد، ومعرفة الرب الخالق سبحانه، كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم/30].
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف/172].
فالإقرارُ بربوبية الله والتوجه إليه أمر فطري، والشرك حادث طارئ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلُّ مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه) [رواه الشيخان]، فلو خُلِّيَ العبد وفطرته لاتجه إلى التوحيد وقَبِل دعوة الرسل؛ الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودلّت عليه الآيات الكونية، ولكن التربية المنحرفة والبيئة الملحدة هما اللتان تغيران اتجاه المولود، ومن ثَمَّ يقلد الأولاد آباءهم في الضلالة والانحراف.
يقولُ الله تعالى في الحديث القدسي: (خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين) [رواه أحمد ومسلم] أي: صَرَفَتْهُم إلى عبادة الأصنام، واتخاذها أربابًا من دون الله؛ فوقعوا في الضلال والضياع، والتفرق والاختلاف؛ كل يتخذ له ربًّا يعبده غير رب الآخر؛ لأنهم لما تركوا الرب الحق، ابتُلُوا باتخاذ الأرباب الباطلة، كما قال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [يونس/32] والضلال ليس له حدّ ونهاية، وهو لازم لكل من أعرضَ عن ربه الحق، قال الله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [يوسف/39، 40].
والشّركُ في الربوبية باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال ممتنع، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن معبوداتهم تملك بعض التصرفات في الكون، وقد تلاعب بهم الشيطان في عبادة هذه المعبودات، فتلاعَبَ بكل قوم على قدر عقولهم، فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى؛ الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كقوم نوح، وطائفةٌ اتخذت الأصنام على صورة الكواكب؛ التي زعموا أنها تؤثر على العالم، فجعلوا لها بيوتًا وسدنة.
واختلفوا في عبادتهم لهذه الكواكب: فمنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، ومنهم من يعبدُ غيرهما من الكواكب الأخرى؛ حتى بنوا لها هياكل، لكل كوكب منها هيكل يخصه، ومنهم من يعبدُ النار، وهم المجوس، ومنهم من يعبد البقر، كما في الهند، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبدُ القبور والأضرحة، وكل هذا بسبب أن هؤلاء تصوروا في هذه الأشياء شيئًا من خصائص الربوبية.
فمنهم من يزعم أن هذه الأصنام تمثل أشياء غائبة، قال ابن القيم: (وضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب، فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته؛ ليكون نائبًا منابه، وقائمًا مقامه. وإلا فمن المعلوم أن عاقلًا لا ينحت خشبة أو حجرًا بيده، ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده...) انتهى .
كما أن عُبَّاد القبورِ قديمًا وحديثًا، يزعمون أن هؤلاء الأموات يشفعون لهم، ويتوسطون لهم عند الله في قضاء حوائجهم ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [يونس/18]، {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} [يونس/18].
كما أن بعض مشركي العرب والنصارى تصوروا في معبوداتهم أنها ولد الله، فمشركو العرب عبدوا الملائكة على أنها بنات الله، والنصارى عبدوا المسيح - عليه السلام - على أنه ابن الله.
3 ـ الرد على هذه التصورات الباطلة
قد رد الله على هذه التصورات الباطلة جميعًا بما يأتي:
أ ـ ردّ على عبدة الأصنام بقوله: {أَفَرَأيْتُمُ الَّلاَتَ وَالعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [يونس/18].
ومعنى الآية كما قال القرطبي: أفرأيتم هذه الآلهة! أنفعت أو ضرت؛ حتى تكون شركاء لله تعالى؟ وهل دفعت عن نفسها حينما حطمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وهدموها.
وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء/69-74].
فقد وافقوا على أنَّ هذه الأصنامَ لا تسمعُ الدعاءَ ولا تنفعُ ولا تضر، وإنَّما عبدوها تقليدًا لآبائهم، والتقليد حجة باطلة.
ب ـ ورد على من عبد الكواكب والشمس والقمر بقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف/54]، وبقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت/37].
جـ ـ ورد على من عبد الملائكة والمسيح - عليهم السلام - على أنهم ولد الله - بقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} [المؤمنون/91]، وبقوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام/101]، وبقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص/3، 4].
الكونُ وفطرتُهُ في الخُضُوعِ والطَّاعةِ لله
إنَّ جميع الكون بسمائه وأرضه وأفلاكه وكواكبه، ودوابه وشجره ومدره وبره وبحره، وملائكته وجنه وإنسه؛ كله خاضع لله، مطيع لأمره الكوني، قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]، وقال تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة/116]، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل/49]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} [الحج/18]، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15].
فكُلُّ هذه الكائنات والعوالم؛ مُنقادة لله خاضعة لسلطانه؛ تجري وفق إرادته وطوع أمره، لا يستعصي عليه منها شيء؛ تقوم بوظائفها، وتؤدي نتائجها بنظام دقيق، وتنزه خالقها عن النقص والعجز والعيب، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء/44].
فهذه المخلوقات صامتها وناطقها، وحيها وميتها، كلها مُطيعةٌ لله مُنقادة لأمره الكوني، وكُلُّها تنزه الله عن النقائص والعيوب بلسان الحال، ولسان المقال. فكلما تدبّر العاقل هذه المخلوقات؛ علم أنها خُلقت بالحق وللحق، وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء عن أمر مدبرها؛ فالجميع مُقِرُّون بالخالق بفطرتهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وهم خاضعون مُستسلمون، قانتون مضطرون، من وجوه:
منها: علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه.
ومنها: خضوعُهُم واستسلامهم لما يجري عليهم من أقداره ومشيئته.
ومنها: دعاؤهم إياهُ عندَ الاضطرار.
والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعًا؛ وكذلك لما يقدره عليه من المصائب، فإنه يفعلُ عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعًا؛ فهو مسلم لله طوعًا، خاضع له طوعًا . والكافرُ يخضع لأمر ربه الكوني، وسجود الكائنات المقصود به الخضوعُ، وسجود كل شيء بحَسَبِه، سُجودٌ يناسبه ويتضمَّنُ الخضوع للرب، وتسبيح كل شيء بحسبه حقيقةً لا مجازًا).
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران/83].
قال: (فذكر سبحانه إسلام الكائنات طوعًا وكرهًا؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد التام؛ سواء أقر المقر بذلك أو أنكره؛ وهم مَدينون له مُدَبَّرون؛ فهمُ مسلمون له طوعًا وكرهًا، وليس لأحد من المخلوقات خروج عمَّا شاءه وقدَّره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكُهُم، يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم، وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع، مفطور فقير محتاج مُعبَّدٌ مقهور؛ وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصور) .
في بيانِ منهج القرآن في إثبات وُجُودِ الخالقِ ووحدانيَّته
منهجُ القرآن في إثبات وجود الخالق ووحدانيته؛ هو المنهج الذي يتمشّى مع الفطر المستقيمة، والعقول السليمة، وذلك بإقامة البراهين الصحيحة، التي تقتنع بها العقول، وتسلم بها الخصوم، ومن ذلك:
1 ـ من المعلوم بالضرورة أن الحادث لابد له من محدث
هذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة؛ حتى للصبيان؛ فإنَّ الصَّبيَّ لو ضربَهُ ضاربٌ، وهو غافلٌ لا يُبصره، لقال: من ضربني؟ فلو قيل له: لم يضربكَ أحدٌ؛ لم يقبل عقلُهُ أن تكونَ الضَّربةُ حدثت من غير محدث؛ فإذا قيل: فلان ضربَكَ، بكى حتى يُضرَبَ ضاربُهُ؛ ولهذا قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور/35].
وهذا تقسيم حاصر، ذكره الله بصيغة استفهام إنكاري؛ ليبيّن أنَّ هذه المقدمات معلومة بالضرورة، لا يمكن جحدها، يقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي: من غير خالق خلقهم، أم هم خَلَقوا أنفسهم؟ وكلا الأمرين باطلٌ؛ فتعين أن لهم خالقًا خلقهم، وهو الله سبحانه، ليسَ هُناك خالق غيره، قال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان/11].
{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [الأحقاف/4].
{أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد/16]، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج/73].
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل/20].
{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل/17].
ومع هذا التحدي المتكرِّر لم يدَّع أحدٌ أنه خلقَ شيئًا، ولا مجرد دعوى - فضلًا عن إثبات ذلك -، فتعيَّنَ أن الله سُبحانه هو الخالقُ وحدَهُ لا شريك له.
2 ـ انتظام أمر العالم كله وإحكامه
أدلُّ دليل على أنَّ مدبره إلهٌ واحد، وربٌّ واحدٌ لا شريك له ولا مُنازع.
قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون/91].
فالإله الحق لابد أن يكون خالقًا فاعلًا، فلو كان معه سبحانه إله آخر، يُشاركه في مُلكه - تعالى الله عن ذلك - لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى شِركَةَ الإله الآخر معه؛ بل إن قدر على قهر شريكه وتفرَّد بالملك والإلهية دونَهُ؛ فعل. وإن لم يقدر على ذلك، انفرد بنصيبه في الملك والخلق؛ كما ينفرد ملوكُ الدنيا بعضهم عن بعض بملكه، فيحصل الانقسام. فلا بُدَّ من أحد ثلاثة أمور:
أ ـ إما أن يقهر أحدهما الآخر وينفردَ بالملك دونه.
ب ـ وإما أن ينفردَ كُلُّ واحد منهما عن الآخر بملكه وخلقه؛ فيحصل الانقسام.
جـ ـ وإما أن يكونا تحت مَلِكٍ واحدٍ يتصرّفُ فيهما كيف يشاء؛ فيكون هو الإله الحق وهم عَبيدُه.
وهذا هو الواقعُ، فإنه لم يحصل في العالم انقسام ولا خلل؛ مما يَدُلُّ على أنَّ مدبره واحدٌ، لا منازع له، وأن مالكه واحد لا شريك له.
3 ـ تسخيرُ المخلوقاتِ لأداء وظائفها، والقيام بخصائصها
فليسَ هُناك مخلوق يستعصي ويمتنع عن أداء مهمته في هذا الكون، وهذا ما استدل به موسى - عليه السلام - حين سأله فرعون: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى} أجاب موسى بجواب شافٍ كافٍ فقال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه/49، 50] أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به؛ من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته، ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهدايةُ هي هداية الدلالة والإلهام وهي الهدايةُ الكاملةُ المشاهدَةُ في جميع المخلوقات، فكلُّ مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضَارِّ عنه، حتى إنَّ الله أعطى الحيوان البهيم من الإدراك؛ ما يتمكن به من فعل ما ينفعه، ودفع ما يضره، وما به يؤدي مهمته في الحياة، وهذا كقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة/7].
فالذي خلق جميعَ المخلوقات، وأعطاها خلقَها الحسنَ - الذي لا تقترح العقول فوق حسنه - وهداها لمصالحها، هو الرب على الحقيقة، فإنكارُهُ إنكارٌ لأعظم الأشياء وجودًا، وهو مكابرة ومُجاهرة بالكذب، فالله أعطَى الخلق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به، ولاشك أنه أعطى كل صنف شكلَه وصورتَهُ المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشّكلَ المناسبَ له من جنسه، في المناكحة والألفة والاجتماع، وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به، وفي هذا براهين قاطعة على أنه جل وعلا رَبُّ كُلِّ شيء، وهو المستحقُّ للعبادةِ دون سواه...
وفي كُـلِّ شـيءٍ لَـهُ آيـةٌ ** تَدلُّ على أنّه الواحدُ
ومما لا شك فيه أنَّ المقصودَ من إثبات ربوبيته - سبحانه - لخلقه وانفراده لذلك: هو الاستدلال به على وجوب عبادته وحده لا شريك له؛ الذي هو توحيد الألوهية، فلو أن الإنسان أقر بتوحيد الربوبية ولم يقر بتوحيد الألوهية أو لم يَقُمْ به على الوجه الصحيح؛ لم يكن مسلمًا، ولا موحدًا؛ بل يكون كافرًا جاحدًا، وهذا ما سنتحدَّث عنه في الفصل التالي - إن شاء الله تعالى -.
بيانُ استلزامِ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ لتوحيد الأُلوهيَّة
ومعنى ذلك أنَّ من أقرَّ بتوحيد الربوبية لله، فاعترف بأنه لا خالق ولا رازق ولا مدبِّر للكون إلا الله - عز وجل - لزمه أن يُقرَّ بأنه لا يستحق العبادة بجميع أنواعها إلا الله سبحانه، وهذا هو توحيد الألوهية، فإنَّ الألوهية هي العبادة؛ فالإله معناه: المعبود، فلا يُدعى إلا الله، ولا يُستغاثُ إلا به، ولا يُتوَكَّلُ إلا عليه، ولا تذبح القرابين وتُنذر النذورُ ولا تُصرفُ جميعُ أنواع العبادة إلا له؛ فتوحيدُ الربوبية دليلٌ لوجوب توحيد الألوهية؛ ولهذا كثيرًا ما يحتجُّ الله - سُبحانه - على المنكرين لتوحيد الألوهية بما أقروا به من توحيد الربوبية، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة/21، 22]. المزيد
|
|
|
|
|